الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **
قدوم مسلم العراق على أبي العباس أمير المؤمنين وذلك أنه كتب إليه يستأذنه في القدوم فأذن له فقدم في جماعة عظيمة فأمر أبو العباس الناس بالتلقي له فلما دخل عليه اعظمن وأكرمه فاستأذنه في الحج فقال: لولا أن أبا جعفر يحج لاستعملناك على الحج والموسم وأنزله قريبًا منهوكان يأتيه في كل يوم يسلم عليه وكان بين أبي جعفر وبين أبي مسلم تباعد. وكان السبب في ذلك أن أبا العباس بعث أبا جعفر إلى أبي مسلم وهو بنيسابور وقد صفت له الأمور بعهده على خراسان وبالبيعة لأبي العباس ولأبي جعفر من بعد موته فبايع له وكان في مدة مقامه عنده يهون أمره ويستخف بشأنه فلما قدم أبو جعفر أخبر أبا العباس باستخفافه به وقال له: أطعني واقتل أبا مسلم فوالله إن في رأسه لغدرة فقال: يا أخي قد عرفت بلاءهوما كان منه فقال: إنما كان بدولتنا والله لو بعثت سنوارًا لقام مقامه فقال: وكيف نقتله قال: إذا دخل عليك وحادثته دخلت إليه فتغفلته وضربته ضربة أتيت بها على نفسه قال:وكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم قال: يؤول ذلك كله إلى ما تريد ولو علموا أنه قتل تفرقوا وذلوا قال: عزمت عليك ألا كففت عن هذا قال: والله أخاف إن لم تتغده اليوم أن يتعشاك غدًا قال: فدونكه أنت أعلم. فخرج أبو جعفر عازمًا على ذلك وندم أبو العباس فأرسل إلى أبي جعفر لا تفعل ذلك الأمر. وفي هذه السنة: عقد أبو العباس لأخيه أبي جعفر بالخلافة من بعده وجعله ولي عهده ومن بعد أخيه جعفر عيسى بن موسى بن محمد بن علي وكتب العهد بذلك وصيره في ثوب وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى بن موسى. وفي هذه السنة: حج بالناس أبو جعفر وحج معه أبو مسلم. وقد ذكرنا أن أبا مسلم استأذن أبا العباس في القدوم فأذن له وكتب إليه أقٌدم في خمسمائة منالجند فكتب إليه أبو مسلم: إني قد وترت الناس ولست آمن على نفسي. فكتب إليه: أن أقبل في ألف وطريق مكة لا يحتمل العسكر فشخص في ثمانية آلاف فرقهم فيما بين نيسابور والري وقدم بالأموال والخزائن فخلها بالري فلما قدم استأذن في الحج فأذن له وخرج أبو مسلم وأبوجعفر فلما كان قريبًا من ذات عرق أتى أبا جعفر كتاب بموت أبي العباس وكان أبو جعفر قدتقدم أبا مسلم بمرحلة فكتب إلى أبي مسلم: إنه قد حدث أمر فالعجل العجل. فلحق أبا وفي هذه السنة: توفي السفاح وبويع لأبي جعفر المنصور. وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ويكنى أبا جعفر ولد بالسراة في ذي الحجة سنة خمس وتسعين وأمه بربرية يقال لها سلامة وحكى الصولي أنه ولد يوم ماتالحجاج.أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد البزاز قال: أخبرنا محمد بن المظفر الحافظ قال: حدَّثنا محمد بن أحمدبن إبراهيم قال: حدَّثنا الحارث بن محمد قال: حدَّثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدثني أبو سهل الحاسب قال: حدثني طيفور مولى أمير المؤمنين قال: حدثتني سلامة أم أمير المؤمنينقالت: لما حملت بأبي جعفر رأيت كأنه خرج من فرجي أسد فزأر ثم أقعى فاجتمعت حولهالأسد فكلما انتهى إليه أسد سجد له.أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال: أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان قال: أخبرنا محمد بن الفرج الأزرق قال:حدثني يحيى بن غيلان قال: حدَّثنا أبو عوانة عن الأعمش عن الضحاك بن مزاحم عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"منا السفاح والمنصور والمهدي". ولي المنصور الخلافة وهو ابن اثنتين وأربعين سنة. بويع بالأنبار يوم مات السفاح. وولي ذلكوالإرسال به في الوحدة عيسى بن علي عمه ولقيت أبا جعفر بيعته في الطريق عند منصرفه من الحج ومضى أبو جعفر حتى قدم الكوفة وصلى بالناس. أخبرنا أبو منصور بن عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقري قال: أخبرنا علي بن أحمد بن أبي قيس قال: أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال: حدثني حمدون بن سعد المؤذي قال: رأيت أبا جعفر يخطب على المنبر متعرق الوجه يخضب بالسواد وكان أسمر طويلًا نحيف العارضين وأمه أم ولد يقال لها: سلامة.أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا عبد العزيز بنعلي الوراق قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن المفيد قال: حدَّثنا أبو بشر محمد بن أحمد بن حمادالأنصاري قال: أخبرنا طاهر بن يحيى بن حسن الطالبي عن علي بن حبيش المديني عن علي بن ميسرة الرازي قال: رأيت أبا جعفر بمكة فتى أسمر اللون رقيق السمرة موفر الجمة خفيفاللحية رحب الجبهة أقنى الأنف بين القنى أعين كأن عينيه لسانان ناطقان تخالطه أبه الملوكبزي النساك تقبله القلوب يعرف الشرف في تواضعه والعتق في صورته واللب في مشيته. ذكر أولاده كان له المهدي واسمه محمد وجعفر أمهما أروى بنت منصور بن عبد الله بن يزيد بن شمر الحميرية وكانت تكنى أم موسى وكان المنصور قد شرط لها ألا يتزوج عليها ولا يتسرى وكتبت علي بذلك كتابًا وأشهدت عليه شهودًا فبقي عليه عشر سنين من سلطانه كذلك وكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه ليفتيه برخصة فإذا علمت أم موسى أرسلت إلى ذلك الففيهبمال فلا يفتيه فلما ماتت أتته وفاتها وهو بحلوان فأهديت إليه تلك الليلة مائة بكر. ومن أولاد المنصور صالح أمه أمة ويقال: بنت ملك الصغد. وسليمان وعيسى ويعقوبأمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله. والغالية أمها من ولد خالد بن أسيد.وجعفر والقاسم وعبد العزيز والعباس فأما جعفر بن أبي جعفر فولي الموصل لأبي جعفر ومات ببغداد فولد لجعفر إبراهيم وزبيدة وهي أم جعفر أمهما سلسل أم ولد جعفر بن جعفر وعبيد الله بن جعفر وصالح بن جعفر ولبابة بنت جعفر. فأما إبراهيم فلا عقب له. وأما زبيدة فتزوجها هارون الرشيد وأما لبابة فكانت عند موسى بن المهدي وأما عيسى بن جعفر فولي البصرة وكورها وفارس والأهواز واليمامة والسند. أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:أخبرنا القاضي أبو العلاء محمد بن علي بن يعقوب الواسطي قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن عمر الحافظ قال: حدَّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشمي قال: حدثني عبد الصمد قال: حدثني أبي موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام عن أبيه محمد بن إبراهيمقال: قال المنصور يومًا ونحن جلوس عنده: أتذكرون رؤيا كنت رأيتها ونحن بالشراة فقالوا: يا أمير المؤمنين ما نذكرها فغضب من ذلك وقال: كان ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب وتعلقوها في أعناق الصبيان فقال عيسى بن علي: إن كنا قصرنا في ذلك فنستغفر الله يا أمير المؤمنين فليحدثنا أمير المؤمنين بها قال: نعم رأيت كأني في المسجد الحرام وكأن رسول اللهصلى الله عليه وسلم في الكعبة وبابها مفتوح والدرجة موضوعة وما أفقد أحدًا من الهاشميين ولا من القرشيين إذا منادٍ ينادي: أين عبد الله فقام أخي أبو العباس فتخطى الناس حتى صار على الدرجة فأخذ بيده فأدخل البيت فما لبث أن خرج علينا ومعه قناة عليه لواء قدر أربعة أذرع وأرجح فرجع حتى خرج من باب المسجد ثم نودي: أين عبد الله فقمت أنا وعبد الله بن علي نستبق حتى صرنا إلى الدرجة فجلس فأخذ بيدي فأصعدت فأدخلت الكعبة وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وبلال. فعقد لي وأوصاني بأمته وعممني وكان كورها ثلاثة وعشرين كورًا وقال: خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة. أخبرنا ابن ناصر الحافظ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال: حدَّثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا أبو سهل بن علي بن نوبخت قال: كان جدنا نوبخت على دين المجوسية وكان في علم النجوم نهاية وكان محبوسًا بسجن الأهواء فقال: رأيت أبا جعفر المنصور وقد أدخل السجن فرأيت من هيبته وحالته وسيماه وحسن وجهه وثيابه ما لم أره لأحد قط. قال: فصرت من موضعي إليه فقلت: يا سيدي ليس وجهك من وجوه هذه البلاد فقال: أجل يا مجوسي قلت: فمن أي البلاد أنت فقال: من المدينة فقلت: أي مدينة فقال: مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: وحق الشمس والقمر إنك لمن ولد صاحب المدينة قال: لا ولكنني من عرب المدينة. قال: فلم أزل أتقرب إليه وأخدمه حتى سألته عن كنيته فقال: كنيتي أبو جعفر قلت: أبشر فوحق المجوسية لتملكن جميع ما في هذه البلدة حتى تملك فارس وخراسان والجبال فقال لي: وما يدريك يا مجوسي قلت: هو كما أقول فاذكر لي هذه البشرى قال: إن قضي شيء فسوف يكون قال: فقلت: قد قضاه الله من السماء فطب نفسًا فطلبت دواة فوجدتها فكتب لي بسم الله الرحمن الرحيم يا نوبخت إذا فتح الله على المسلمين وكفاهم مؤونة الظالمين ورد الحق إلى أهله لم نغفل عما يجب من حق خدمتك إيانا. وكتب أبو جعفر. قال نوبخت: فلما ولي الخلافة صرت إليه وأخرجت الكتاب فقال: أنا له ذاكر ولك متوقع والحمد لله الذي صدق وعده وحقق الظن ورد الأمر إلى أهله. وأسلم نوبخت وكان منجمًا لأبي جعفر ومولى. يومئذ بمكة. وكان الذي أخذ له البيعة بالعراق وقام بأمر الناس عمه عيسى بن علي وكتب إليه يعلمه بموت أخيه وبالبيعة له فلما وصل الكتاب إليه دعا الناس فبايعوه وبايعه أبو مسلم. وفي رواية: أنه ورد عليه الخبر بعدما صدر من الحج في منزل يقال له: صفية فتفاءل باسمه قال: صفي أمرنا إن شاء الله. وجعل يجزع فقال له أبو مسلم: ما هذا الجزع قال: أتخوف من شر عبد الله بن علي وسعيد بن علي قال: لا تخف وأنا أكفيك أمره إن شاء الله إنما عامة جنده أهل خراسان وهم لا يعصوني فسري عن أبي جعفر وكان عبد الله بن علي قد قدم في هذه السنة على أبي العباس الأنبار فعقد له على الصائفة في أهل خراسان وأهل الشام وأهل الجزيرة والموصل فسار فأتته وفاة أبي العباس وبعث إليه عيسى بن علي وأبو الجهم بن يزيد بن زياد ببيعة المنصور فانصرف بمن معه إلى حران وبايع لنفسه. كان المنصور قبل الخلافة يطلب العلم. أنبأنا زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أبو عثمان الصابوني وأبو بكر البيهقي قالا: أخبرنا أبو عبدالله محمد بن عبد الله الحاكم قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ قال: حدَّثناجعفر بن محمد بن الحسين قال: حدَّثنا محمد بن سعد الجلاب قال: حدَّثنا الجارود بن يزيدقال: حدَّثنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي قال: كنت أطلب العلم مع أبي جعفر أمير المؤمنين قبل الخلافة فأدخلني يومًا إلى منزله قدم طعامًا ومريقة من حبوب ليس فيها لحم ثم قدم إلي زبيبًا ثم قال: يا جارية عندك حلواء قالت: لا قال: ولا التمر قالت: ولا التمر فاستلقى ثم تلى هذه الآية: أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا عبد المحسن بن محمد المالكي قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدَّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدَّثنا أبو الفضل الربعي قال: حدثني أبي قال: بينا المنصور ذات يوم يخطب وقد علا بكاؤه إذ قام رجل فقال: يا وصاف تأمرنا بما تجتنبه وتنهى عما ترتكبه بنفسك فابدأ ثم بالناس. فنظر إليه المنصور ثم تأمله مليًا ثم قطع الخطبة وقال: يا عبد الجبار خذه إليك فأخذه عبد الجبار وعاد خطبته فأتمها وقضى الصلاة ثم دخل ودعى بعبد الجبار فقال: ما فعل الرجل فقال: محبوس عندنا يا أمير المؤمنين قال: أمل له ثم اعرض له بالدنيا فإن عزف عنها فلعمري إنه لمريد للآخرة وإن كان كلامه ليقع موقعًا حسنًا وإن مال إلى الدنيا ورغب فيها إن لي فيه أدبًا يزعه عن الوثوب على الخلفاء وطلب الدنيا بعمل الآخرة. فخرج عبد الجبار فدعا بالرجل ودعا بغذائه فقال له: ما حملك على ما صنعت قال: حق الله كان في عنقي فأديته إلى خليفته قال: إذًا فكل قال: لا حاجة لي فيه قال: وما عليك من أكل الطعام إن كانت نيتك حسنة فدنا فأكل فلما أكل طمع فيه فتركه أيامًا ثم دعاه فقال:لهى عنك أمير المؤمنين وأنت محبوس فهل لك في جارية تؤنسك وتسكن إليها قال: ما أكره ذلك. فأعطاه جارية ثم أرسل إليه: هذا الطعام قد أكلت والجارية قد قبلت فهل لك في ثياب تكتسيها وتكسو عيالك إن كان لك عيال ونفقة تستعين بها على أمرك إلى أن يدعو بك أمير المؤمنين إن أردت الوسيلة عنده إذا ذكرك قال: وما هي قال: أوليك الحسبة والمظالم فتكون أحد عماله تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قال: ما أكره ذلك. فولاه الحسبة والمظالم فلما أتى عليه شهر قال عبد الجبار للمنصور: الرجل الذي تكلم بما تكلم به فأمرت بحبسه قدأكل من طعام أمير المؤمنين ولبس من ثيابه وعاش في نعمته وصار أحد ولاته فإن أحب أميرالمؤمنين أن أدخله عليه في زي الشيعة فعلت. قال: فأدخله. فخرج عبد الجبار فقال: قد دعا بك أمير المؤمنين وقد أعلمته أنك أحد عماله على المظالم والحسبة فأدخل عليه في الزي الذي يحب فألبسه قباء وعلق خنجرًا في وسطه وسيفًا بمعاليق وأسبل جمته ودخل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: وعليك ألست القائم بنا والواعظ لنا ومذكرنا بأيام الله على رؤوس الملأ قال: نعم قال: فكيف تخليت عن مذهبك قال: يا أمير المؤمنين فكرت في أمري فإذا أنا قد أخطأت فيما تكلمت به ورأيت أين مصيب في مشاركة أمير المؤمنين في أمانته قال: هيهات أخطأت استك الحفرة هناك يوم أعلنت الكلام وظننا أنك أردت الله فكففنا عنك فلما تبين لنا أنك أردت الدنيا جعلناك عظة لغيرك حتى لا يجترئ بعدك مجترئ على الخلافة أخرجه يا عبد الجبار فاضرب عنقه فأخرجه فقتله. أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني أبو الفضل محمدبن عبد العزيز بن المهدي الخطيب قال: حدَّثنا الحسن بن محمد بن القاسم المخزومي قال: صعد أبو جعفر إلى المنبر فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أذكرك من أنت في ذكرهفقال أبو جعفر: مرحبًا مرحبًا لقد ذكرت جليلًا وخوفت عظيمًا وأعوذ بالله ممن إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم والموعظة منا بدت ومن عندنا خرجت وأنت يا قائلها فاحلف بالله ما الله أردت بها إنما أردت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر وأهون بها من قائلها وإياكم معشر الناس وأمثالها. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فعاد إلى خطبته كأنهما يقرأها من قرطاس. وكان المنصور يشتغل في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات وسجن الثغور والأطراف والنظر في الخراج والنفقات ومصالح الرعية. فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف وشاور سماره وكانت ولاة البريد يكتبون إليه كل يوم بسعر القمح والحبوب والإدام وكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم وما يرد بيت المال وكل حدث فإذا صلى المغرب يكتبون إليه بما كان ذلك اليوم وإذا نظر في كتبهم فإن رأى الأسعار على حالها أمسك وإن تغير شيء منها كتب إلى العامل هناك وسأله عن العلة فإذا ورد الجواب تلطف حتى يعود سعر ذلك البلد إلى حاله وإن شك في شيء مماقضى به القاضي كتب إليه في ذلك وسأل من بحضرته من علمه فإن أنكر شيئًا كتب إليه يوبخه ويلومه. فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف إلى سماره فإذا مضى الثلث الباقي قام من فراشه فأسبغ الوضوء ووقف في محرابه حتى يطلع الفجر.وأول من اتخذ الخيش المنصور وإنما كانت الأكاسرة تطين لها في الصيف سقف بيت في كليوم فتكون قائلة الملك فيه وكان يؤتى بأطنان الخلاف طوالًا غلاظًا فيوضع حوالي السرير ويؤتى بقطع الثلج والعظام ما بين أضعافها وكانت بنو أمية تفعل ذلك فاتخذ المنصور الخيش.وشكى إليه رجل من بعض عماله في قصة فوقع عليها: أكفني أمره وإلا كفيته أمرك. ووقع إلى عامل آخر: قد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت. قال أبو بكر الصولي: أول من وزر لبني العباس أبو سلمة الخلال ثم خالد بن برمك فلما توفيالسفاح أقره المنصور مديدة ثم استوزر أبا أيوب سليمان بن أبي سليمان المورياني ثم ولى الفضل بن الربيع بن يونس بعد أبي أيوب. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسين بن محمد أخو الخلال قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الله الشطي قال: حدَّثنا أبو إسحاق الهجيمي قال:حدَّثنا محمد بن القاسم أبو العيناء قال: قال لي إسماعيل بن بريهة عن بعض أهله عن الربيع الحاجب قال: لما مات المنصور قال لي المهدي: يا ربيع قم بنا حتى ندور في خزائن أمير المؤمنين قال: فدرنا فوقعنا على بيت فيه أربعمائة جب مطينة الرؤوس. قال: قلنا ما هذه قيل: هذه فيها أكباد مملحة أعدها المنصور للحصار. أنبأنا محمد بن عبد الباقي عن أحمد بن ثابت بن علي الخطيب عن أبي القاسم بن علي البصري عن إبراهيم بن محمد الطبري قال: أخبرنا إبراهيم بن علي الهجيمي قال: حدثنا أبوالعيناء قال: دخل المنصور في باب الذهب فإذا ثلاثة قناديل مصطفة فقال: ما هذا أما واحد من هذا كان كافية يقتصر من هذا على واحد. قال: فلما أصبح أشرف على الناس وهم يتغدونفرأى الطعام قد خف من بين أيديهم قبل أن يشبعوا فقال: يا غلام علي بالقهرمان قال: مالي رأيت الطعام قد خف من بين أيديهم قبل أن يشبعوا قال: يا أمير المؤمنين رأيتك قد قدرت الزيت فقدرت الطعام فقال: ويلك أنت لا تفرق بين زيت يحترق في غير ذات الله وبين طعامإذا فضل وجدت له آكلًا ابطحوه فبطحوه فضربه سبع درر.أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال: أنبأنا أبو غالب محمد بن أحمد بن سهل بن بشران قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن دينار الكاتب قال: أخبرنا أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد الأصفهاني قال: أخبرنا حبيب بن نصر المهلبي قال: حدَّثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني عبد الله بن الحسن الحراني قال: حدثني أبو قدامة قال: حدثني المؤمل بن أميل قال: قدمت على المهدي وهو بالري وهو إذ ذاك ولي عهد فامتدحته بأبيات فأمر لي بعشرين ألفدرهم فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن الأمير المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم فكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر فطلب فلم يجدوه فكتب إلى أبي جعفر: إنه قد توجه إلى مدينة السلام فأجلس المنصور قائدًا من قواده عند جسر النهروان وأمر أن يتصفح وجوه الناس رجلًا رجلًا فجعل لا تمر به قافلة إلا تصفح من فيها حتى مرت به القافلة التي فيها المؤمل فتصفحه فلما سأله: من أنت قال: أنا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر أحد زوار الأمير المهدي قال: إياك طلب. قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفًا من أبي جعفر فقبض علي وسلمني إلى الربيع فدخل بي إلى أبي جعفر وقال: هذا الشاعر الذي أخذ من الأمير المهدي عشرين ألف درهم قد ظفرنا به قال: أدخلوه إلي.فأدخلت فسلمت عليه تسليم مروع فرد علي السلام وقال: ليس ها هنا إلا خير أنت المؤملبن أميل قلت: نعم يا أمير المؤمنين أنا المؤمل بن أميل قال: أتيت غلامًا غرًا فخدعته قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين أتيت غلامًا غرًا كريمًا فخدعته فانخدع قال: فكان ذلك أعجبهفقال: أنشدني ما قلت فيه فأنشدته ما قلت وهي: هو المهدي إلا أن فيه **مشابه صورة القمر المنير تشابه ذا وذا فهما إذا ما **أنارا يشعلان على البصير فهذا في الظلام سراج ليل **وهذا في النهار ضياء نور ولكن فضل الرحمن ** هذا على ذا المنابر والسرير وبالملك العزيز فذا أمير **وماذا بالأمير ولا الوزير ونقص الشهر ينقص ذا **وهذا منير عند نقصان الشهور فيا ابن خليفة الله المصفى** به تعلو مفاخرة الفخور لئن فت الملوك وقد توافوا **إليك من السهولة والوعور لقد سبق الملوك أبوك حتى **بقوا من بين كاب أو حسير وجئت مصليًا تجزي حثيثًا **وما بك حين تجزي من فتور وإن بلغ الصغير مدى الكبير ** فقد خلق الصغير من الكبير فقال هل المنصور: قد والله أحسنت ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم فأين المال قال: ها هو ذا قال: يا ربيع امض معه فأعطه أربعة آلاف درهم وخذ منه الباقي ففعل الربيع ما أمره به المنصور.ثم أن المهدي ولي الخلافة بعد ذلك فولى ابن ثوبان المظالم فكان يجلس للناس بالرصافة فإذا ملأ كساءه رقاعًا رفعها إلى المهدي فرفعت إليه لي قصة فلما دخل بها ابن ثوبان جعل المهديينظر في الرقاع حتى وصل إلى رقعتي فلما قرأها ضحك فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة فقال: نعم هذه رقعة أعرف قصتها ردوا إليه عشرين ألف درهم فردها إلي وانصرفت.وقد رويت لنا هذه القصة من طريق آخر ومنها: وكتبت قصة أشرح فيها ما جرى علي فرفعها ابن ثوبان إلى المهدي فلما قرأها ضحك حتى استلقى ثم قال: هذه مظلمة أنا بهاعارف ردوا عليه ماله الأول وضموا إليه عشرين ألفًا. أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أحمد بن عمر بن روح قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدَّثنا ابن دريد قال: حدَّثنا الحسن بن خضر عن أبيه قال: أقول له حين واجهته عليك السلام أبا جعفر فقال المنصور: وعليك السلام فقال: فأنت المهذب من هاشم وفي الفرع منها الذي يذكر فقال له المنصور: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فهذه ثيابي قد أخلقت وقد عضني زمن منكر.فألقى إليه المنصور ثيابه وقال: هذه بدلها. وذكر الصولي عن الهيثم بن عدي قال: كان المنصور يبخل إلا في الطيب فإنه كان يأمر أهله به فكان يشتري في رأس كل سنة اثني عشر ألف مثقال من سائره فيتطيب كل شهر بألف مثقال يخضب به رأسه ولحيته. وقال يحيى بن سليم كاتب الفضل بن الربيع: ولم ير في دار المنصور لهو قط ولا شيء يشبه اللعب والعبث. وقال حماد التركي كنت واقفًا على رأس المنصور فسمع جلبة في الدار فقال: ما هذا يا حماد انظر فذهبت فإذا خادم له قد حبس حوله الجواري وهو يضرب لهن الطنبور وهنيضحكن فجئت فأخبرته فقال: وأي شيء الطنبور فقلت خشبة من حالها وصفتها فقال: فما يدريك أنت ما الطنبور قلت: رأيته بخراسان فقال: هات نعلي فأتيته بها فقام يمشي رويدًا حتى أشرف عليهم فلما بصروا به تفرقوا فقال: خذه فأخذته فقال: اضرب به رأسه فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته ثم قال: أخرجه من قصري واذهب به إلى حمران بالكرخ وقل له يبيعه.وقال سالم الأبرش: كان المنصور من أحسن الناس فإذا لبس ثيابه تغير لونه وتربد وجهه فاحمرت عيناه ويكون منه ما يكون فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك: وقال يومًا: يا بني إذا رأيتموني قد لبست ثيابي ورجعت من مجلسي فلا يدنون أحد منكم مني لئلا أغره بشر.ذكر طرف من كلامهأخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا محمد بن الحسين الجازري قال: حدَّثنا المعافى بنزكريا قال: حدَّثنا محمد بن أبي الأزهر قال: حدَّثنا الزبير بن بكار قال: حدَّثنا مبارك الطبري قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول: الخليفة لا يصلحه إلا التقوى والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة والرعية لا يصلحها إلا العدل وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلًا من ظلم من هو دونه.أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: أخبرنا أبو العباس المنصوري عن القثمي عن مبارك الطبري قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله لا تجلس مجلسًا إلا ومعك فيه رجل من أهل العلم يحدثك فإن محمد بن مسلم بن شهاب قال: إن الحديث ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال ويكرهه مؤنثوهم وصدق أخو بني زهرة. وكان المنصور يقول: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم قيل: يا أمير المؤمنين من هم قال: هم أركان الملك ولا يصلح الملك إلا بهم كما أن السرير لايصلح إلا بأربعة قوائم إن نقصت قائمة واحدة فقد وهي أما أحدهم فقاضٍ لا يأخذه في الله لومة لائم والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي والثالث: صاحب خراج يستقضي ولا يظلم الرعية فإني غني عن ظلمهم. ثم عض أصبعه السبابة ثلاث مرات يقول في كل مرة: آه آه على الرابع فقيل له: من هو يا أمير المؤمنين قال: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة. وكتب أبو جعفر إلى عامله بالمدينة: أن بع الثمار التي في الضياع ولا تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا والذي يغلبنا المفلس الذي لا مال له ولا رأي لنا في عذابه ويذهب مالنا قبله وبعها بدون من ذلك ممن ينصفك ويوفيك. قال المنصور: كانت العرب تقول: العري الفادح خير من الزي الفاضح. وقال أيضًا: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثًا: إفشاء السر والتعرض للحرمة والقدح في الملك. وقال: سرك من دمك فانظر من تملكه. وقال: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافى ومن أضعف فقد شكر ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم ولا تلتمس من غيرك شكر ما أتيته إلى نفسك ووقيتبه عرضك واعم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن قصدك فأكرم وجهك عن رده.أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن صرما قال: أنبأنا أبو الحسين بن المهتدي قال: حدَّثنا أبو حاتم محمد بن عبد الواحد بن محمد بن زكريا الخزاعي قال: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن محمد العنبري قال: سمعت الفضل بن الحارث يقول: سمعت محمد بن سلام الجمحي يقول: قيل للمنصور: هل بقي من ذات الدنيا شيء لم تنله قال: بقيت خصلة أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث فيقول المستملي: من ذكرت رحمك الله قال: فغدى عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر فقال: لستم هم إنما هم الدنسة ثيابهم المشققة أرجلهم الطويلة شعورهم برد الآفاق ونقلة الحديث.وفي هذه السنة: حج بالناس أبو جعفر وكان على الكوفة عيسى بن موسى وعلى قضائها ابنأبي ليلى وعلى البصرة وعملها سليمان بن علي وعلى قضائها عباد بن منصور وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد وعلى مصر صالح بن علي.ورخصت الأسعار. فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا جعفر الخلدي قال: أخبرنا الفضل بن مخلد قال: سمعت داود بن صغير يقول: رأيت زمن أبي جعفر كبشًا بدرهم وحملًا بأربع دوانيق والتمر ستين رطلًا بدرهم والزيت ستة عشر رطلًا بدرهم والسمن ثمان أرطال بدرهم. ربيعة بن أبي عبد الرحمن واسمه فورخ مولى آل المنكدر التيمي تيم قريش الذي يقال له: ربيعة الرأي ويكنى ربيعة أبا عثمان ويقال: أبا عبد الرحمن مديني: سمع من أنس بن مالك والسائب بن يزيد وعامة وكان عالمًا فقيهًا ثقة وأقدمه السفاح الأنبار ليوليه القضاء. وقال يونس بن يزيد: رأيت أبا حنيف عند ربيعة ومجهود أبي حنيفة أن يفهم ما يقول.أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو القاسم الأزهري قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: أخبرنا أحمد بن مروان المالكي قال: حدَّثنا يحيى بن أبي طالب قال: حدَّثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف قال: حدثني مشيخة أهل المدينة:أن فروخًا أبا عبد الرحمن خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازيًا وربيعة حمل في بطن أمه وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرسًا وفي يده رمح فنزل عن فرسه ثم دفع الباب برمحه فخرج ربيعة فقال له: يا عدو الله أتهجم على منزلي فقال: لا وقال: فروخ: يا عدو الله أنت دخلت على حرمتي فتواثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران فبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا بالسلطان وأنت مع امرأتي وكثر الضجيج فلما بصروا بمالك سكت الناس كلهم فقال: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار فقال الشيخ: هي داري وأنا فورخ مولى بنيفلان فسمعت امرأته كلامه فخرجت فقالت: هذا زوجي وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به فاعتنقا جميعًا وبكيا فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابن قال: نعم قال: فأخرجي المال الذي لي عندك وهذه معي أربعة آلاف دينار فقالت: المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام. ثم خرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقته وأتاه مالك بن أنس والحسن بن زيد وابن أبيعلي اللهبي والمساحقي وأشراف أهل المدينة وأحدق الناس به فقالت امرأته: اخرج فصل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فخرج فنظر إلى حلقة وافرة فأتاها فوقف بها وفرجوا له قليلًا ونكس ربيعة رأسه وأوهمه أنه لم يره وعليه طرحة طويلة فشك فيه أبو عبد الرحمن فقال: من هذا الرجل فقالوا له: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن فقال أبو عبد الرحمن: لقدرفع الله ابني ثم رجع إلى منزله فقال لوالدته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها فقالت أمه: فأيما أحب إليك ثلاثون ألف دينار أو هذا الجاه الذي هو فيه فقال: لا والله إلا هذا قال: فإني أنفقت المال كله عليه قال: فوالله ما ضيعتيه. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ قال: أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي قال: أخبرنا محمد بن جعفر التميمي قال: حدَّثنا أحمد بن محمد أبو سعيد النيسابوري قال: حدَّثنا الحسن بن صاحب بن حميد قال: سمعت أبا سلمة الصنعاني الفقيهأتينا مالك بن أني فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي فكنا نستزيده من حديث ربيعة فقال لناذات يوم: ما تصنعون بربيعة هو نائم في ذاك الطاق فأتينا ربيعة فأنبهناه فقلنا له: أنت ربيعةبن أبي عبد الرحمن قال: نعم قلنا: ربيعة بن فروخ قال: بلى قلنا: ربيعة الرأي قال: نعم قلنا: الذي يحدث عنك مالك بن أنس قال: نعم قلنا: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك قال: أما علمتم أن مثقالًا من دولة خير من حمل علم.أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا ابن الفضل قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر قال: حدَّثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثني محمد بن أبي بكر قال: أخبرني ابن وهب قال: قال مالك: لما قدم ربيعة بن أبي عبد الرحمن على أمير المؤمنين أبي العباس أمر له بجائزة فأبى أن يقبلها فأعطاه خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية فأبى أن يقبلها. قال ابن وهب: وحدثني مالك عن ربيعة قال: قال لي حين أراد الخروج إلى العراق: إن سمعتأني حدثتهم شيئًا أو أفتيتهم فلا تعدني شيئًا قال: فكان كما قال لما قدمها لزم بيته فلم يخرجإليهم ولم يحدثهم بشيء حتى رجع.أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الأزهري والجوهري قالا: حدَّثنا محمد بن العباس قال: حدَّثنا سليمان بن إسحاق الجلاب قال: حدَّثنا الحارث بن محمد بن مطرف قال: أخبرنا مطرف بن عبد الله قال: سمعت مالك بن أنس يقول: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي. توفي ربيعة بالمدينة وقيل: بالأنبار في هذه السنة. عبد الله السفاح أبو العباس: كانت وفاته بالجدري. أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بنالمكتفي قال: حدَّثنا جحظة قال: قال جعفر بن يحيى: نظر أمير المؤمنين السفاح في المرآة وكان من أجمل الناس وجهًا فقال: اللهم إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الملك الشاب ولكني أقول: اللهم عمرني طويلًا في طاعتك ممتعًا بالعافية. فما استتم كلامه حتى سمع غلامًا يقول لغلام آخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام فتطير من كلامه وقال: حسبي الله لا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه أستعين فما مضت إلا أيام حتى أخذته الحمى فجعل يوم يتصل إلى يوم حتى مات بعد شهرين وخمسة أيام.أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الحسن بن محمد الخلال قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عمران قال: حدثنا محمد بن سهل بن الفضل الكاتب قال حدَّثنا عبد الله بن أبي سعد قال: ذكر محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي: إن الرشيد قال لابنه: كان عيسى بن علي راهبنا وعالمنا أهل البيت ولم يزل في خدمة أبي محمد بن علي بن عبد الله إلى أن توفي ثم خدم أبا عبد الله إلى حين وفاته ثم إبراهيم الإمام وأبا العباس والمنصور فحفظ جميع أخبارهم وسيرهم وأمورهم. وكان قرة عينه في الدنيا ابنه إسحاق فليس فينا أهل البيت أعلم بأمرنا من إسحاق فاستكثر منه واحفظ جميع ما يحدثك به فإنه ليس دون أبيه في الفضل وإيثار الصدق. قال: فأعلمته أني قد سمعت منه شيئًا كثيرًا فقال لي: هل سمعت خبر وفاة أبي العباس السفاح فقلت: نعم فقال: قد سمعت هذا الحديث من أبي العباس بن عيسى بن علي فحدثني ما حدثك به إسحاق لأنظر أين هو مما حدثني به أبوه. فقال: حدثني إسحاق بن عيسى عن أبيه: أنه دخل في أول النهار يوم عرفة على أبي العباس وهو في مدينته بالأنبار قال إسحاق: قال أبي: وكنت قد تخلفت عنه أيامًا لم أركب إليه فيها فعاتبني على تخلفي عنه فأعلمته أني كنت أصوم منذ أول يوم من أيام العشر فقبل عذري وقال لي: أنا في يومي هذا صائم فأقم عندي لتقضين فيه بمحادثتك إياي ما فاتني من محادثتك في الأيام التي تخلفت عني فيها ثم نختم ذلك بإفطارك عندي فأقمت إلى أن تبينت النعاس في عينه قد غلب عليه فنهضت عنه استمر به النوم فملت بين القائلة في داره وبين القائلة في داري فمالت نفسي إلى الانصراف إلى منزلي وقلت إلى وقت الزوال ثم ركبت إلى داره فوافيت إلى باب الرحبة الخارج فإذا برجل دحداح حسن الوجه مؤتزر بإزار مترد بآخر. فسلم علي وقال: هنأ الله الأمير هذه النعمة وكل نعمة البشرى أنا وافد أهل السند أتيت أمير المؤمنين بسمعهم وطاعتهم وبيعتهم فما تمالكت سرورًا أن حمد الله على توفيقه إياي للانصراف في أن أبشره بهذه البشرى. فما توسطت الرحبة حتى وافى رجل في مثل لونه وهيئته وقريب الصورة من صورته فسلم علي وهنأني بمثل ما هنأني به ذلك وذكر أنه وافد أهل إفريقية أتى أمير المؤمنين بسمعهم وطاعتهم فتضاعف سروريأكثرت من حمد الله على ما وفقني له من الانصراف ثم دخلت الدار فسألت عن أمير المؤمنين فأخبرت أنه في موضع يتهيأ فيه للصلاة فدخلت إليه وهو يسرح لحيته فابتدأت بتهنئته وأعلمته أني رأيت ببابه رجلين أحدهما وافد أهل السند فوقع عليه زمع وقال: الآخر وافد أهل إفريقية بسمعهم وطاعتهم فقلت نعم فسقط المشط من يده ثم قال: سبحان الله كل شيء بائدسواه نعيت والله نفسي حدثني إبراهيم الإمام عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أنه يقدم علي في يوم واحد وافدان: أحدهما وافد السند والآخر وافد إفريقية بسمعهم وطاعتهم وبيعتهم فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أموت. وقد أتاني الوافدان فأعظم الله أجرك يا عم في ابن أخيك فقلت: كلا يا أمير المؤمنين إن شاء الله فقال: بلى أنا إن شاء الله لئن كانت الدنيا حبيبة إلي فصحة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي منها والله ما كذبت ولا كذبت. ثم نهض وقال لي: لا تبرح من مكانك حتى أخرج إليك فما غاب كثيرًا حتى أذنت المؤذنون بصلاة الظهر فخرج إلي خادم له فأمرني بالخروج إلى المسجد والصلاة بالناس ففعلت ذلك ورجعت إلى موضعي حتى أذنت المؤذنون بصلاة المغرب فخرج إلي الخادم فأمرني بمثل ذلك. ففعلت وعدت إلى مكاني ثم أذنت المؤذنون بصلاة العشاء فخرج إلي الخادم بمثل ما كان يأمرني به ففعلت ولم أزل مقيمًا في مكاني إلى أن مر الليل فتنفلت حتى فرغت من صلاة الليل والوتر إلا بقية بقيت من القنوت فخرج عن ذلك ومعه كتاب فدفعه إلي حين سلمت فإذا هو معنون مختوم من عبد الله أمير المؤمنين إلى الرسول والأولياء وجميع المسلمين وقال: يا عم اركب في غد فصل بالناس في المصلى وانحر واخبر بعلة أمير المؤمنين وأكثر لزومك داري فإذا قضيبت نحبي فاكتم وفاتي حتى تقرأ هذا الكتاب على الناس وتأخذ عليهم البيعة للمسمى في هذا الكتاب وإذا أخذتها واستحلفت الناس عليها بمؤكدات الإيمان فانع إليهم أمير المؤمنين وجهزه وتول الصلاة عليه وانصرف في حفظ الله وتأهب لركوبك فقلت: يا أمير المؤمنين هل وجدت علة فقال: يا عم وأي علة هي أقوى وأصدق من الخبر الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت الكتاب ونهضت فما مشيت إلا خطًا حتى هتف بي هاتف يأمرني بالرجوع فرجعت فقال لي: إن الله قد ألبسك كمالًا وأكره أن يحطك الناس فيه وكتابي الذي في يدك مختوم وسيقول لك من يحسدك على ما جرى على يديك من هذا الأمر الجليل إنك إنما وفيت للمسمى في هذا الكتاب لأن الكتاب كان مختومًا وقد رأى أمير المؤمنين أن يدفع إليك خاتمه ليقطع بذلك ألسنة الحسدة عنك فخذ الخاتم فوالله ما كذبت ولا كذبت فانصرفت وتأهبت للركوب وركبت وركب معي الناس حتى صليت بأهل العسكر ونحرت وانصرفت إليه فسألته عن خبره فقال: خبر من يموت لا محالة فقلت: يا أمير المؤمنين وجدت شيئًا فأنكر علي قولي وكشر في وجهي وقال: يا سبحان الله أقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنه يموت وتسألني عما أجد لا تعد لمثل هذا ثم دخلت عليه عشية يوم العيد وكان أحسن من عاينته عيناي وجهًا فرأيته وقد حدثت في وجهه وردية لم أكن أعهدها فزادت وجهه جمالًا ثم بصرت بإحدى وجنتيه حبة مثل حبة الخردل بيضاء فارتبت بها ثم صوبت نظري إلى الوجنة الأخرى فوجدت فيها حبة أخرى ثم أعد نظري إلى الوجنة التي عاينتها بدئًا فرأيت الحبة قد صارت اثنتين ثم لم أزل أرى الحب يزداد حتى رأيت في كل جانب من وجنتيه مثل الدينار مقدارًا حبًا أبيض صغارًا فانصرفت وهو على هذه الحالة وغسلت غداة اليوم الثاني من يوم التشريق فوجدته قد هجر وذهبت عنه معرفتي ومعرفة غيري فخرجت إليه بالعشي فوجدته قد صار مثل الزق المنفوخ وتوفي وفي اليوم الثالث من أيام التشريق فسجيته كما أمرني وحرجت إلى الناس وقرأت عليهم الكتاب وكان فيه: من عبد الله أمير المؤمنين إلى الرسول والأولياء وجميع المسلمين. أما بعد فإن أمير المؤمنين قد قلد الخلافة بعده عليكم أخاه فاسمعوا له وأطيعوا وقد قلد الخلافة ن بعد عبد الله عيسى بن موسى إن كان. ثم أخذت البيعة على الناس وجهزته وصليت عليه ودفنته في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة. فقال الرشيد: هكذا حدثني أبو العباس ما غادر إسحاق من حديث أبيه حرفًا واحدًا فاستكثروا من الاستماع منه فنعم حامل العلم هو. قال مؤلف الكتاب رحمه الله: واختلفوا في مقدار عمره على أربعة أقوال أحدها: ثلاثون سنفأما الصلاة فإنه صلى عليه عيسى بن علي دفن بالأنبار العتيقة في قصره وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر ويومين وقيل: وتسعة أشهر منها ثمانية أشهر مشتغلًا بقتال مروان بن محمد وخلف تسع جباب وأربعة أقمصة وخمس سراويل وأربع طيالسة وثلاثة مطارق خز. عبيد الله بن أبي جعفر مولى بني كنانة: ولد سنة ستين ورأى عبد الله بن الحارث بن جزء وكان عالمًا زاهدًا. روى عن محمد بن إسحاق وغيره من أهل المدينة وكان سليمان بن داود يقول: ما رأيت عيناي عالمًا زاهدًا إلا عبيد الله بن أبي جعفر.أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ عن أبي القاسم وأبي عمرو ابني عبد الله بن مندة عن أبيهماقال: حدَّثنا أبو سعيد بن يونس الحافظ قال: حدثني أبي عن جدي قال: حدثني ابن وهب قال: حدثني أبو شريح عبد الرحمن بن شريح عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: غزونا إلى قسطنطينية فانكسر مركبنا فألقانا الموج على حشفة في البحر وكنا خمسة أو ستة فأنبت الله بعددنا ورقًا لكل رجل منا ورقة فكنا نمصها فتشبعنا وتروينا فإذا أمسينا أنبتالله لنا مكانها أخرى حتى مر بنا مركب فحملنا. توفي عبيد الله بمصر في هذه السنة. ويقال: في سن اثنتين وثلاثين وصلى عليه أبو عون عبدعبد الكريم بن الحارث بن يزيد أبو الحارث الحضرمي: روى عنه حية بن شريح وابن لهيعة وغيرهما. وكان من العباد المجتهدين فلو قيل إن الساعةتقوم غدًا ما كان فيه فضل لمزيد وقيل له: ما أحسن عزاءك عند المصائب فقال: إني أوطن نفسي عليها قبل نزولها. مليكة بنت المنكدر: كانت عابدة مجتهدة وكلمت في الرفق بنفسها فقالت: دعوني أبادر طي صحيفتي.أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الصوفي قال: أخبرنا ابن أبي صادق الحيري قال: حدَّثنا ابن باكويه الشيرازي قال: حدثني عيسى بن عمر بن عبد المؤمن قال: حدَّثنا أحمد بن محمدالقرشي قال: حدَّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدثني موسى بن عبد الملك أبو عبد الرحمن المروزي قال: قال مالك بن دينار: بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بامرأة جهيرة في الحجر وهي تقول: أتيتك من شقة بعيدة مؤملة بمعروفك فأنلني معروفك تعينني به عن معروف من سواك يا معروفًا بالمعروف. فعرفت أيوب السختياني وسألنا عن منزلها وقصدناها وسلمنا عليها فقال لها أيوب السختياني: قولي خيرًا يرحمك الله قال: وما أقول أشكو إلى الله قلبي وهواي فقد أضراني وشغلاني عن عبادة ربيقال أيوب الخستياني: فما حدثت نفسي بامرأة قبلها فقلت لها: لو تزوجت رجلًا كان يعينك على ما أنت عليه قالت: لو كان مالك بن دينار أو أيوب السختياني ما أردته فقلت: أنا مالك بن دينار وهذا أيوب السختياني فقالت: أف لقد ظننت أنه يشغلكما ذكر الله سبحانه وتعالى عن محادثة النساء وأقبلت على صلاتها فسألت عنها فقالوا: هذه مليكة بنت المنكدر. توفيت مليكة رضي الله عنها في هذه السنة وهي سنة ست وثلاثين ومائة ودفنت بالمدينة وقيل بمكة والله عز وجل أعلم.
|